حامد بن عبدالله العلي يتزايد التحذير هذه الأيام ، مما هـو أخـوف على البشرية من كلّ أزمات العالم ، وأشدّها خطـراً ، ذلك هـو شبح المجاعات الإنسانية الكبيرة الذي يطـلّ بوجهه القبيح البشـع على شعـوب العالم لاسيما الفقيرة ، بسبب أزمة الغذاء العالمية.
ولعـلَّ من أعجب مفارقات هذا العصـر المليء بالتناقضات ، ذلك الضجيج الصاخب عن حقوق الإنسان ، بينما هـذا الإنسـان ، قد غـدا محرومـا حتىّ من حقّ حفظ نفســه من الموت جوعـا !
ولاريب أنّ الدول الكبرى لاسيما الغربية منها ، هي المسؤول الأوّل عن هذه الكارثة الماحقة ، التي تهــدِّد العالم ، وإذا أردت أن تصف لسان حالهم ، فهـو يقول : ليمت الناس جوعــا، ليسيطر الغرب على العالم !
فإلى جانب إرهاقهم العالم بالحروب ، وأطماع السيطرة ، وما تستلزمه من نفقات خيالية ، فإنَّ هذه الآلة العسكرية الغربية الإستعمارية الضخمة ، لما كانت بحاجة إلى الوقـود ، فإنها بعد أن أدت إلى أزمة أسعار النفط ، اتجهت إلى استهلاك الغذاء لإستخراج الطاقـة منه ، ولهذا فقـد وقـّـع الرئيس الأمريكي قانون الطاقة ، وعليه تـمّ استهلاك 24% من الذرة لإنتاج الميثانول، وأما أوربا فقررت أن تزيد اعتمادها على الحبوب لإنتاج الطاقة ، بحيث بعد عشر سنوات ، سيكون 10% من إنتاج الطاقة من الحبوب!
وبسهولة تستخرج هذا النتيجـة : إنَّ ملء خزان وقـود دبابة من الميثانول ، يكفي لإطعام شخص ـ قوتـه الأساس يعـتمد على الذرة ـ إطعـامه طوال العام !
خمسة ملايين طفل يموتون سنويا من الجوع ، وثمانمائة مليون جائع يعيشون حول العالم، لايجدون لقمة العيش التي يقيمون بها صلبهم ، ويتهددهم الموت بكرة وعشيا ،
ومع ذلك ، فقـد وصلت زيادة أسعار الحبوب إلى ما لم تصل إليه منذ تأسيس مؤشرالإيكونوميست لأسعار المواد الغذائية عام 1945، وصلـت ـ وفق هذا المؤشـر ـ إلى 75% ، أما بورصة مجلس شيكاغو للتجارة ، وهـي المقياس العالمي الأول لأسعار الحبوب في العالم ، فقد أشارت إلى أنَّ القمح ارتفعت أسعاره بنسبة 90% مـع نهاية العام الماضي 2007.
ويعزو الخبراء أسباب هذا الخطر المخيف ، إضافة إلى استهلاك الغرب للغذاء للحصول إلى الطاقة منه بدل إنقـاذ جياع العالم من المـوت ،
إلـى أسباب عـدَّة :
على رأسهـا : ارتفاع أسعار النفط ، فالزراعة أصبحت تعتمد بصورة كبيرة جداً لإنتاج الأسمدة الكيماوية ، وتشغيل آلات الحرث ، والحصاد، فضلاً عن وسائل نقل المحصول ، على النـفط .
ويقول المفكّر ، والمحلل السياسي الأمريكي ، بول كروجمان في معرض ذكره أسباب أزمة الغذاء العالمية : إنَّ غزو العراق-الذي تعهد المدافعون عنه بأنه سيخفض أسعار النفط- ساهم أيضاً في تقليص إمدادات الطاقة مقارنة مع الوضع السابق على الغزو.
كما ذكــر أن الدول والحكومات التي وقفت في طريق الحـدّ من انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري ، مما أدى إلى تقلبات الطقس التي أثرت سلبا على الإنتاج الزراعي العالمي ، مسؤولة عن هذه الأزمة العالمية .
ومعلوم أنَّ أمريكا على رأس تلك الدول ، وقفت ضد الحد من الإحتباس الحراري خوفا على إقتصادها ،كعادتها في عدم المبالاة بما يصيب العالم ، إذا خافت على أطماعها ، ومشاريعها الإستعمارية.
ويذكر الخبـراء أنّـه ـ والله أعلـم ـ بحلول العام 2050 سوف يزيـد عدد سكان العالم من الستة مليارات ، ليصبح عدد نفوس البشـر على وجه البسيطـة تسعة مليارات، وهـؤلاء كلَّهم يحتاجون إلى الغـذاء.
ومع أزمة الغذاء العالمية الآخذة في الصعـود، والتضخـم المخيف في السلع الأساسية ، فإنَّ هذا يعنـي أن المجاعات الهائلة بإنتظار مستقبل البشـرية ، مالم يتحرَّك العالم لبرنامج إنقاذ عالمي .
ومعلوم أنَّ بلادنا العربية تقع في بؤرة هذه الأزمة العالميـّة ، وإذا كانت بوادرها قد بدأت ، بهذه المظاهرات الغاضبة في مصر ، كما في أحداث المحلة الأسبوع الماضي ، وما نراه في اليمـن ، وبعض بلاد المغرب العربي ، فإنَّ الله تعالى وحـده الذي يعلم كيف ستبدو أواخــرها .
ولاريـب أن أهـمّ مـا ينبغي إستحضاره من خطورة هذه الأزمـة الغذائيـة ، علاقتـها المباشرة بمصير الأمم ، عـن طريق ارتباطها بالقرار السياسي .
فمن عجائب المعادلات السياسية في التاريخ ، إرتباط الحبوب بإستقلال هذا القـرار ، وهو الأمر الذي نشهده اليوم في علاقة النظام العربي بالدول الكبرى التي تملك قــراره، أو التأثيـر الكبير على قراره .
ولا يكشف المرء ســرَّا ، إذا قال إنَّ الدولتين الوحيدتين اللّتين تصدّران القمح في منطقتنا ، همـا إيران وسوريا ، ولعل هذا يفسـر أنهّمـا الدولتان الوحيدتان اللتان تتحدّيان سياسة الغرب .
بينما تركت بقية دول المنطقة التمسّـك بحبال قوِّتهِــا ، وأوثقـت نفسها في حبـال أسْـر قوُتهِــا ، الذي يملكه من يطعمها القمح !
وهذا يجيـب على ذلك اللغـز المحـيّر ، أعنـي أن تبقى مصر بلد النيل القادرة على تصدير القمـح للعالم كلَّه ، تبقى أكبــر مستورد للقمح في العالم ! لاسيمامن أمريكا ، فهي تستورد سبعة ملايين طن .
ذلك أنـّها أكبـر دولة في النظام العربي ثقـلا ، وأعظمها أثـراً ، وعلى سياستها تدور القضايا المصيرية ، فلاجـرم قـد قُيـِّدت بهذا الوثاق الشديد !
كما يجيب على لغــز آخـر : لماذا إذا حدثـت أزمة غذائية عالمية ، وخرج الشعب المصري البطل يتظاهر مطالبا بحقـّه في الخبـز ، فالحـلّ ليس هوكما قال الرئيس الجديد لملاوي ، عندما قال : أنـا لا أريد رئيساً لدولة تتوسل الآخرين لتغذية شعبها .
فقرر على إثـر ذلك ، إطلاق برنامج يوفر لصغار المزارعين الأسمدة والبذور ، وفي غضـون ثلاث سنوات ، زاد الإنتاج في العام الأول من مليون طن من الذرة ، إلـى مليونين طن من الذرة في السنة التي تليها ، ثم في العالم الثالث 3,4 مليون طن من الذرة.
ليس الحـل هـو أن تزرع مصر القمح ، بل في قمـع المظاهرات بالهراوات!
وهذا لايقتصـر على مصر فحسب ، فهذه الأرقام التالية أصبحت منشورة في كلَّ النشرات الإقتصادية : فالجزائر تستورد خمسة ملايين طن، والعراق تستورد ثلاثة ملايين طن ، والمغرب تستورد أيضاً ثلاثة ملايين طن ، واليمن يستـورد ثلاثة ملايين طن تقريبا ، وهذه البلاد كلها من أخصب أرض الله تعالى !
وهذا كله يدل على أنَّ فساد النظام السياسي العربي بلغـت آثاره المدمّـرة ، أن تقتـل الشعوب من الجـوع .
وأنـّـه مالم يحدث التغييـر السياسي الذي تنشده الشعوب ، والذي يرتكز على ثلاثـة أسس :
الأول : تخليص الأمـّة من الهيمنة الأجنبيـة ، التـي غدت تتحكم حتى في خبـز شعوبـنا ، وتحـرم شعوب العالم من خبـزهـا .
والثاني : تخليص الأمّـة من الإستبداد السياسي الذي هو مصدر كلِّ مصائبها.
والثالث : تخليص الأمّـة من حالة التشرذم ، وضياع الهوية.
أنـّه مالم يحـدث هذا التغيير ، فإنَّ أحداث المحـلّة ، ستصبح في كلِّ محـلّة .
ذلك أنَّ الناس إذا اجتمع عليهم جـوع أزمة الغذاء العالميـة ، مع سلب الحرية ، وانتهاك الكرامة ، فإنهـم يتحولون إلى سيـل بركان جارف لايقف في وجهـه شيء.
ولله الأمـر من قبل ، ومن بعـد ، ولكن أكثر الناس لايعلمون